في عصر باتت فيه المعاني تذبل، والقلوب تثقل بأدران العابرين، ارتقى من بيننا رجل سمي الخلق شريف الطباع رجل نسج من التفرد، وخط لنفسه سطرا مختلفا في سفر الحياة، لم يكن عابرا بين الناس بل كان مرساة في حياة من حوله، حضوره كان يتجاوز المدى و الزمن، و يترك أثرا عميقا لا يمحى،كأنما انبثق من زمن اخر، اكثر نبلا و اصدق من الواقع الداج الذي نخوضه اليوم.
دفن الجثمان في الثرى، وظل بيننا الأثر الدائم الذي لا يقبر، لأن الأرواح الطاهرة لا تفنى ولا تزول، بل تسترد إلى موطنها الأول، كما تسترد السماء نجومها حين يصل ميعادها.
رحل صديقي، ذلك الذي لم يكن اسما يحاكى على الألسن، بل كان سيرة تغزل في القلوب.
كان يمشي بين الناس ولا يحمل سوى طيبته، يستبشر كل الناس كأنهم من أهله، ويبتسم في وجوههم كأن في محياه شمسا لا تغرب. أضفى على وظيفته بعدا رساليا، متجاوزا حدود الوظيفة التقليدية نحو هدف أكبر و اسمى، فلم تكن بدلته الرسمية درعا، بل رداء من التسامي و التواضع، يخفي تحته قلبا نابضا بالصدق والوفاء.
عرفناك كأب شفيف، وأخ حنون، وصديق لا يعرف إلا أن يكون حاضرا حين يتغيب الكل.
كيف للقلب أن يصدق أن صاحب الخطى الهادئة قد غادر الدرب؟
كيف للروح أن تذعن بأنك، يا صاحب النفس السخية، صرت من الغائبين؟
ما كنت ممن يعبرون الحياة خفيفي الأثر، بل كنت كشبك السحاب تمر وتمطر. وكل من عاشرك، استسقى من دفئ طيبتك وإنسانيتك. كنت تبث الطمأنينة بكلمة، وتحيي الأمل بنظرة وابتسامة، وتغرس الخير في الأرض كما تغرس الأشجار جذورها في الترب النقية.
واليوم،في لحظة من صمت القدر، توقف نبضك عن الحياة، وشرع خفقان أشق في ذاكرة كل من أحبوك.
ان الموت يا صديقي، لا يطال من عاشوا لخدمة الانسان و الانسانية، بل هو استراحة للمرهقين من البذل، وهو رجوع كريم إلى الحق الذي لا ينسى.
غف بسلام و طمأنينة كما كنت حيا نقيا، فالله أكرم من أن يضيع من أفنى عمره في حب خلقه.
سنظل ياصديقي العزيز، نهدهد ألم فراقك بالدعاء، ونزين ذكراك بالعرفان، ونتلو على روحك ما تحفظه السماوات من دعاء الصالحين:
اللهم اجعل قبره نورا، ومثواه رضوانا، وأجزل له الثواب كما أجزل العطاء.
وداعا، أيها النبيل الذي كان أمانا في زمن الخوف، وصدقا في زمن الرياء.
إنا لله وإنا إليه راجعون.
عماد بوعسيلة.
المصدر : https://www.microtv.ma/?p=42539