بقلم :أحمــد فطـــري
منذ أزيد من ثلاثة عقود كُنت قد نشرت مقالة بجريدة (العَلم)، نوّهت فيها بإقدام أحد التجار المثقفين وقتها على تحويل مقهى إلى مكتبة بقلب شارع محمد الخامس بالرباط؛ وإنْ كانت تلك المكتبة لم تعمّر طويلاً، قبل أن تقام مكتبة أخرى محل قاعة سينمائية في نفس الشارع بالعاصمة الإدارية، وهي التي ما زالت إلى الآن تقاوم كل التحديات والصعوبات بصبر وأناة وشجاعة ومهنية…
واليوم أكتب عن الصورة المعكوسة ممثَّلة في ما شهدتْه مدينة مراكش مؤخراً، حيث أُقيم مطعم للوجبات السريعة على أنقاض مكتبة ذات تاريخ مجيد في المدينة الحمراء العريقة، كان قادة الحركة الوطنية وراء إحداثها في مواجهة السياسة الثقافية الاستعمارية، حيث ارتبطت هذه المكتبة بأسماء وازنة رائدة في الثقافة والسياسة ببلادنا…
إلا أن التراجع المطّرد الذي عرفه سوق الكتاب -وما يزال- فرض على من آلت إليه (مكتبة الشعب) بهذه المدينة أن يحوّلها إلى (سوق الأكل) الذي يعرف نوعاً من الازدهار المطّرد نقيض السوق الأولى؛ وهكذا تم إقبار الثقافة في هذه المعلمة التي كانت زاهية مشرقة على يد روّادها الأوائل أواخر عهد الحماية وفي بداية عهد الاستقلال وإلى سنوات قريبة، قبل أن يأفل نجم الكتاب تدريجياً خلال العقدين الأخيرين بصفة خاصة، نتيجة ظروف شتى وعوامل متداخلة…
على أننا غالباً ما نحمّل جانباً كبيراً من (المسؤولية) في ذلك لوسائل التواصل الاجتماعي الحديثة التي طغت مؤخراً على الساحة الإعلامية والعلمية، وتطورت معها (ثقافةٌ) من نوع آخر لا عهد لنا به من قبل؛ حيث تم معها بشكل ملحوظ انحسار المطبوعات الورقية في سائر المجالات المعنية، وعلى رأسها مجال الثقافة وما يرتبط به من كتب ومجلات وصحف وجرائد وما إليها…
في حين أن عدداً من المؤسسات الرسمية تتحمل بدورها قسطاً وافراً من المسؤولية كذلك، ونخص بالذكر وزارة التربية الوطنية والتعليم الأوّلي، ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي، ووزارة الثقافة، والمجالس المنتخبة… وكل الجهات التي لها صلة ما بالموضوع، والتي لم تعد تولي عناية تُذْكر للكتاب ولا تشجع دوره المتميز في تكوين العقول وإرشاد الناشئة وتهذيبها وتوجيهها الوجهة الصحيحة…
ولعل ذلك يبدو واضحاً في تــراجع الاهتمام بكُتب الأطفال التي تشجعهم على القــراءة وتعــوّدهم عليها،
وكذا في الإهمال الذي تعرفه المكتبات المدرسية والجامعية، إضافة إلى ما يطال الخزانات العامة في المدن -أَحْرَى في البوادي- من تراجع وتقهقر في أدوارها الطلائعية؛ بالمقارنة مع الميزانيات الضخمة التي تُرصد وتُصرف على المهرجانات الرديئة والمعارض الصورية والمواسم الشكلية التي كثيراً ما توجَّه اهتماماتُها لأهداف أخرى دونية بعيدة كل البعد عن الفكر والثقافة!؟
دون أن نغفل ما أصبح مهيمناً من الاعتماد المفرط على اللوحات الإلكترونية والهواتف الذكية في البحث وإعداد الدروس والمحاضرات والأطروحات، وفي كثير من الميادين النظرية والتطبيقية؛ وذلك على حساب إعمال العقل والتفكير الذي لم يعد يحتل مرتبة متقدمة كما كان شأنه سلفاً!!
لا نريد أن يشطّ بنا الفكر والقلم في الحديث عن التحولات الجذرية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية الحالية والمستقبلية التي ما فتئت تعرفها المجتمعات البشرية نتيجة التطورات (والانقلابات) المذكورة وسواها، فذلك موضوع شائك ذو شجون يستحق دراسات عديدة من قِبل مؤسسات علمية متخصصة؛ ولكننا فقط نريد أن نثير الانتباه إلى ظاهرة تشهدها ولا شك عدد من جهات المملكة، وتتمثل في تحويل المكتبات إلى وجهات أخرى مُدِرّة لبعض المداخيل المالية التي تساعد على العيش بكرامة، عكس وجهة الكتاب وما إليه من المطبوعات التي لم تعد توفر لقمة عيش كافية، فهجرها أصحابها مكرهين للضرورة، كما آل مصير (مكتبة الشعب) بمراكش حالياً؛ وذلك على طرفي نقيض – مع الأسف الشديد- بالمقارنة مع ما كان عليه الأمر إلى عهود قريبة، كما هو شأن (مكتبة الألفية الثالثة) بالرباط مثالاً يُحتذى!؟
ومن المؤكد أن هذا الموضوع الحيوي يحتاج من ذوي الاختصاص إلى نقاشات ثقافية وعلمية عميقة ومثمرة…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملحوظة: نستثني الكتاب المدرسي الذي يعرف (انتعاشة) ظرفية اضطرارية مرتبطة بعوامل أخرى لا مجال للحديث عنها في هذه المقالة….
المصدر : https://www.microtv.ma/?p=32787