مهما اختلفت عصور ومناطق العالم، يبدو أن الأفكار الدينية والفلسفية والعلمية تتعاقب بشكل دوري. إن تطور الأفكار في نظرنا يُشبه الدورة الخلدونية لحياة الأمم: ولادة، نمو، ثم نضج فموت.
لكن من أجل دراسة تاريخ الفلسفة، يجب تعريف هذه الأخيرة أولا. هنا الآراء تختلف باختلاف الفلاسفة. غير أن التعريف الأصح هو الذي يسمح بِتَعَقُّبِ أشكالها وأنماطها المُتباينة عبر العالم والأزمنة، وليس فقط حصرها بالضرورة في نمط بعينه، هو النمط الأوربي الحديث. وفقا لهذا التعريف، فإن الفلسفة هي نمط من التفكير النظري (بما أنه يستهدف الحقيقة) والمعياري (بما أن الأمر يتعلق دائما بقِيَم، على الأقل الحقيقة نفسها كقيمة) والممارساتي (حكمة أو دليل عيش). وبما أن الفكر المُسمى دينيا لا يخرج عن هذا التعريف هو أيضا (مبادئ للعقيدة، تعاليم أخلاقية، دليل للعيش)، يُمكن القول إن الفلسفة تختلف عن هذا الفكر باتخاذها وسائل فكرية أكثر عقلانية.
هذا التعريف يتيح أيضا، كما مرَّ معنا، توسيع تاريخ الفلسفة حتى يشمل بقية التقاليد الفكرية العالمية ( الهند، الصين، اليابان، الإسلام، روسيا). وبما أن هذه الثقافات تتطور بشكل متلازم ولو جزئيا، مع الحفاظ على قدر من الاستقلالية الدَّالة بينها، فإن ذلك يسمح بمقارنة تطورها عبر الزمن. أي، بصيغة أخرى، ممارسة التاريخ المقارن للفلسفة.
لكن ما الذي يُفصح عنه هذا التاريخ المُقارن؟ أن تاريخ الفكر لا يتعاقب بشكل فوضوي وعشوائي، وإنما يتطور زمنيا ومكانيا من خلال حِقَب وفترات متشابهة، انطلاقا من أوروبا وصولا إلى الصين، وبداية من العصر القديم حتى اليوم. هذه الفترات تُشكل ما يمكن تسميته بالدورات.
ولادة_ونمو_الفلسفة
لا يظهر الفكر الفلسفي بشكل مفاجئ هنا أو هناك، وإنما تسبقه ظروف تُمهد عملية ولادته ونهوضه. يجب أن تسبقه حياة ثقافية تُميزها السجالات الفكرية بين مثقفيها. هؤلاء المُثقفين ليسوا سوى رجال الذين يتناقشون ويُحاجون بعضهم البعض دفاعا عن آرائهم حتى ينتهي بهم الأمر إلى ممارسة الفلسفة. علموا ذلك أم لم يعلموه.
نُلاحظ هذا التحول في اليونان القديمة إثر المرور من الميثوس إلى اللوغوس. غير أننا نلاحظ تحولا مماثلة في أماكن أخرى من العالم، في الهند والصين. وتظل الحالة الإسلامية أكثر تعبيرا عن خروج الفلسفة من معطف الدين: الفلاسفة الأوائل لم يكونوا سوى علماء لاهوت (مُتكلمين)، المُعتزلة.
هذه الفلسفة المُتحدرة من الفكر الديني تظل محتفظة بنهكته. وبالتالي فأول فترة في تاريخ الفلسفة – التي يمكن دعوتها بالفترة ما قبل كلاسيكية – تُمثل الوقت اللازم للفلسفة من أجل انتزاع نوع من الاستقلالية.
مرحلة النضج
بعد مرحلة الطفولة تأتي مرحلة النضج. هنا يبدأ الفكر الفلسفي بالتحرر تدريجيا من وصاية الدين. بل أكثر من ذلك، يُصبح الدين عائقا في وجه تطور الفلسفة، بعد أن كان هو الأرض الخصبة التي ترعرعت فيها. حان الوقت إذا للفلسفة من أجل فرض سيطرتها على التقليد ووضعه جانبا. وهكذا ينتهي الأمر بالفلسفة إلى كسب نوع من الاستقلالية. هذا لا يعني أن الدين يُصبح مختفيا كليا من الحياة العامة، ولكنه يصبح أقل شأنا في ظل المنافسة الشرسة للوافدين الجدد على الحياة الفكرية والثقافية.
في هذه الفترة، يُصبح التفكير الديني مرادفا للرجعية والتخلف، في حين تصبح الفلسفة رمزا للتقدم والانفتاح على المعارف والنظريات الجديدة بأسلوب غير مسبوق. إنها الفترة الكلاسيكية للفلسفة. هذه الفترة يجب البحث عنها في الهند القديمة في الفترة الممتدة ما بين سنتي 540 و480 قبل الميلاد، حيث ازدهرت المدارس المُبتدعة ذات النفس الالحادي: الآجيفيكا (القدرية)، الكارفاكا (المادية)، الشكوكية، البوذية، الجايانية.
في اليونان القديمة، يُمكن القول إن النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد، يُطابق أهم مواصفات النزعة الكلاسيكية. نفس الشيء يُمكن قوله بخصوص الفلسفة الأوربية إبان القرنين السابع عشر والثامن عشر ميلاديين.
كيف يظهر تقليد فلسفي للوجود؟
يُمكن أن نجد الفلسفة – مَفْهُوَمَةً بالمعنى الواسع وليس التقني – تقريبا في كل مكان وفي كل عصر. دون شك كانت هناك فلسفات في العصر الحجري القديم. لكن، للحديث عن تقليد فلسفي، يلزم أكثر من مجرد أفكار متناثرة: شبكة فكرية حقيقية. وبالتالي تلزم شروط مادية حتى تتمكن هذه الشبكات من التواجد. في المقام الأول، إنتاج فلاحي يكفي لإعالة طبقة من المُفكرين. في المقام الثاني، بنيات اجتماعية وسياسية مُنفتحة ومُتسامحة بما يكفي لازدهار أفكار استثنائية وأصيلة وغير تقليدية.
أخيرا، حتى وإن كان التفلسف شفويا أمر ممكن، الكتابة عامل حاسم حتى ينتقل الفكر، وينتشر، ويتم دحضه داخل قنوات حِجاجية عبر الزمن. في كلمة واحدة، لا يُوجد تقليد فلسفي إلا هناك حيث تُوجد سيرورة حضارية.
هذه الشروط ليست تقييدية في الواقع، لأن العالم قد عرف عشرات الحضارات المتقدمة. من الممكن أن تكون قد وُجدت هناك فلسفة عند المايا والأزتيك والفراعنة وغيرهم من الشعوب. لكن السؤال بالأحرى هو معرفة ما إذا كان بإمكاننا كتابة تاريخها. غير أن هذا الأمر يظل شبه مًستحيل في ظل غياب وثائق بأعداد كافية.
انحطاط نسبي للفلسفة وبروز العلوم
حتى تكون هناك دورة، يجب أن يكون هناك انحطاط. لكن كيف نعثر على مؤشر مناسب يُسعفنا في تحديد فترة بداية هذا الانحطاط الفلسفي؟ كيف يُمكن اقناع أتباع هيغل وهايدغر بانحطاط الفلسفة بعد كانط؟
على كل حال لسنا في حاجة إلى الدخول في هذه الدوامة، فالمؤشر يَمُدُنَا به التاريخ الفكري. في بداية الحقبة التي يُمكن تسميتها بالحقبة ما بعد كلاسيكية، تطفو على السطح شيئا فشيئا طريقة جديدة في التفكير هي الطريقة العلمية. عندها لا يعود للفلسفة اليد العليا في انتاج العلوم، في ظل منافسة شرسة من بقية العلوم التي تسعى إلى تهميشها.
مثل الدين في السابق، لا تموت الفلسفة، لكنها تتأخر على مستوى المعارف السائدة. صحيح أن أمورا من قبيل فلسفة القيم والحكمة والمسائل الوجودية، لا يُمكن حصرها في مجرد أسئلة معرفية، ومع ذلك فقد أصبح واضحا أن مختلف المعارف (الطبيعية والاجتماعية والإنسانية…) قد استولت على الميدان. لا شك أن هذه المعارف كانت متواجدة حتى في الفترة الكلاسيكية، لكنها كانت مُمَارَسَةً من طرف فلاسفة تحت مسميات من قبيل الفلسفة الطبيعية والفلسفة الاجتماعية. ذلك أن الفترة ما بعد كلاسيكية هي فترة استقلال مختلف المعارف، وإن لم تكن استقلالية كاملة.
وهكذا، ففي اليونان الهلنستية انتصبت الإسكندرية كعاصمة علمية، في حين احتفظت أثينا بهيمنتها الفلسفية. أما العالم العربي-الإسلامي فقد عرف بروز عدد من العلوم بداية من القرن العاشر ميلادي. نفس الشيء يُمكن قوله حول الغرب المعاصر وروسيا واليابان. حيثما تبزغ العلوم، فإن الفلسفة تعكس الحدث من خلال إصلاح نفسها والتحول.
الصعود القوي للنزعة الدينية
نشوء المعارف على شكل تخصصات متمايزة لم يكن دون نتائج على طريقة التفلسف. وهكذا فقد سعى الفلاسفة ما بعد كلاسيكيون تارة إلى تقليد الصرامة العلمية من خلال بناء أنظمة فلسفية شبيهة بحصون فكرية في إطار حرب مع العلم؛ وتارة أخرى إلى الاقتراب من الحقل الأدبي والمواضيع الوجودية من أجل تفادي المواجهة. في الحالة الأولى، يتم إعطاء الأهمية لمبادئ أساسية صعبة الولوج على الاستقصاء التجريبي، وفي الحالة الثانية لقيم لا يملك العلم ما يقوله حولها. في جميع الحالات عرفت الفلسفة تحولا مهما.
لكن على المدى البعيد، بدى أن التوجه الأقوى هو العودة القوية للمواضيع الدينية. في الواقع، من أجل الحفاظ على شرعية فكرية كاملة، كان من الضروري التطرق إلى كيانات غير قابلة للمَوْضَعَةَ (وبالتالي خارج نطاق اشتغال العلم) من قبيل الروح، أو الوعي المحض، أو الحرية، او الله. أو أيضا: البراهمان، الطاو، الكوسموس، العقل، العدم، الكينونة…
طبعا فالسناريو ليس دائما هو نفسه حسب الحضارات المُعتبرة. لكن تاريخ الفلسفة المقارن يُسلط الضوء على انعطافات مماثلة. بهذا الصدد، تبدو عودة الدينية أكثر وضوحا في الفلسفة الإغريقية والرومانية المتأخرة، حيث أصبحت التأثيرات الباطنية والتنجيمية الشرقية بارزة على نحو متزايد. إن نزعة أفلوطين الصوفية ستنتهي بتوحيد كل الفكر الوثني، قبل أن تُحقق المسيحية انتصارها الحاسم على الحياة الفكرية.
أما في الإسلام، فالتوجه نحو الفكر الصوفي أصبح أكثر فأكثر إلحاحا كلما خلت الساحة من الفلاسفة العقلانيين والعلماء (على وجه التحديد الفلاسفة الأطباء، الفلاسفة الفلكيون، الفلاسفة الرياضيون). وهكذا انتهت الدينية ببسط سيطرتها على العالم الإسلامي، من الأندلس حتى بلاد فارس. نفس التوجه نُعاينه في هِند نهاية الألفية الأولى قبل المسيح عندما تم تهميش الحركات الابتداعية وإغراق المُتمنطقين في الدينية الهندوسية المُكتسحة آنذاك.
الصين واليابان وروسيا والغرب المُعاصرين (وكل الثقافات المُنْتِجَة للفلسفة اليوم) لم يكملوا دورتهم، وبالتالي فهم غير معنيين بهذه الظواهر.
موت الفلسفة واكتمال الدورة
عندما تتعرض الفلسفة لمنافسة العلم من جهة، وضغط النزعات الدينية من جهة أخرى، تُصبح أقل مقدرة على الرد والإجابة على مختلف الانتظارات. وحين يعجز العلم نفسه عن المحافظة على نوع من التوازن، فإن الحياة الفكرية برمتها تنزلق جهة الدين. لا تستمر الفلسفة إلا كمُلْحَقٍ روحي للفكر الديني. اكتملت الدورة.
هذا ما حدث في العالم الهلنستية في بداية القرن السابع، والعالم الروماني في نفس الفترة (لكن أكثر جهة الغرب)، في الهند نحو القرن صفر، في الصين إبان المرحلة المضطربة للممالك الستة عشر في الجنوب وممالك جين في الشمال (حوالي سنة 400 بعد الميلاد)، ثم نحو نهاية أسرة يوان المنغلوية (سنة 1378)، وأخيرا، في العالم الإسلامي، عند نهاية فترة حكم الصفويين، نحو سنة 1700.
إن نهاية دورة هي دائما بداية دورة أخرى. اليوم، تشهد الفلسفة حيوية ملحوظة في العالم قاطبة. وبما أن مختلف العلوم هي الأخرى تعرف نشاطا كبيرا وتزدهر في استقلالية تامة، يُمكن القول إننا، من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، في حضرة حقبة ما بعد كلاسيكية. ومع ذلك فموت الفلسفة ليس بقريب. وربما لن يحدث أبدا. ربما ما شكَّلَ القاعدة لزمن طويل، لم يعد كذلك اليوم. ربما تعطل مفهوم الدورية نفسه بسبب ظاهرة العولمة. في الحقيقة، استندت الدورات دائما إلى حضارات بعينها، وبالتالي، فإذا توحدت الإنسانية، تغيرت القواعد.
لكن من المُرجح أيضا أن جَزْرًا عولميا يتلو حقبة العولمة، يُعيد كل ثقافة إلى حدودها، وبالتالي يجعلها تلتقي مجددا بنوازعها القديمة.
مهما يكن من أمر، فالخناق يشتد حول الفكر الفلسفي، وميدان عمله يتقلص شيئا فشيئا. فليست “الطبيعة” وحدها من تخضع لتدخل شامل من طرف العلوم، وإنما الواقع الإنساني أيضا. بحيث، في ظل حالة الأزمة واللايقين هذه، يُصبح السؤال مُلحا: ماذا بقي للفلسفة بشكل خاص؟ القِيَم، الحكمة، الوجود، الحرية، السعادة، الجمال، كلها مواضيع مُرشحة لتضمن للفلسفة شرعية مُستمرة.
القدامة، العصر الوسيط، الحداثة: تقطيع خادع
إن التقطيع المعتاد للزمن يخضع لمنظورٍ مُتمركزٍ حول الذات الأوربية. فمن وجهة نظر أوروبا، كل ما هو ما قبل مسيحي أو مسيحي قديم يُحيل على “القدامة” – حُزمة ضخمة مترابطة بشكل جد سيئ. من جانبها، تجعل عبارة “الأزمنة الحديثة” المرء يعتقد بأن قطيعة جذرية تفصل النهضة عما سبقها، في حين أن نفس السيرورة (الاجتماعية والاقتصادية والفكرية) كانت قيد التنفيذ منذ نهاية القرن العاشر، عندما بدأت أوروبا تُوجد ككيان ثقافي قائم بذاته. إذا كُنا نبحث عن انعطافة تاريخية مُعَبّرة للغاية، فسنجدها في السنة ألف أكثر من سنوات 1453 و1492 و1789.
مصطلح “العصر الوسيط” المُتَدَاول، هو الآخر غير مناسب، بما أنه يُوجد من العصور الوسيطة بقدر ما يُوجد من الانتقالات بين “قدامات” و”حداثات”. إن شعبا يبدو دائما “قديما” بالنسبة لشعب آخر أكثر “حداثة”، ومع ذلك يجد فيه جذوره – السومريون بالنسبة للبابليين، المسينيون بالنسبة لليونانيين، الأولمكيون بالنسبة لتيوتيهواكان وهذه المدينة بالنسبة للتولتكيين، الخ.
في المُجمل، يمكن الاحتفاظ بالتقطيع قدامة – عصر وسيط – حداثة، لكن بشرط مضاعفة تطبيقاته والتخلي عن الخطية المُتضمنة في الثالوث. إذا كانت الحضارات تُولد وتموت وتفصل بينها “عصور وسيطة”، فإن التاريخ هو دوري بقدر ما هو خطي على الأقل. وبالتالي يكون للفلسفة (التي ليست سوى بُعْدٍ للحياة الفكرية، التي هي نفسها ليست سوى بُعْدٍ للحياة الثقافية) أيضا تاريخ دوري.
Sciences Humaines, Hors-Série n°29, Janvier-Février 2024, L’histoire mondiale de la pensée. )1(
(2) Vincent Citot, fondateur et directeur de la revue Le philosophoire. Dernier ouvrage paru : Histoire mondiale de la philosophie. Une histoire comparée des cycles de la vie intellectuelle dans huit civilisations, Paris, PUF, 2022.
فينسنت سيتو2
ترجمة يوسف اسحيردة
المصدر : https://www.microtv.ma/?p=31195